زينة برهوم… لحن أوبرالي ملهِم في عمّان
قدّمت الأوبرا فرص الإبداع لزينة برهوم. بعد انطلاق النسخة الثانية من مهرجان ”أوبرا عمّان“، تأمل السوبرانو الأردنية في إلهام منطقتها الاستثمار في عظمة الموسيقى وروائعها.
نشر هذا المقال للمرّة الأولى داخل عدد شهر نوفمبر 2018 من ڤوغ العربيّة
في ليلة معتدلة الأجواء من ليالي شهر سبتمبر، وقبل أن تتوارى شمس المغيب خلف التلال التي تحف بوسط عمّان مرسلةً فيضاً من أشعتها الذهبية على المسرح الروماني المفتوح والذي يعود تاريخ بنائه إلى نحو 2000 عام خلت، يشق الناس طريقهم عبر ممراته الحجرية التي تآكلت تحت وطأة أقدام رواده عبر القرون. وحين توشك مقاعده على الامتلاء، يدلف عازفو أوركسترا سيتشوان الفيلهارمونية متجهين إلى المقاعد المخصصة لهم أمام المسرح. ويُعلَن عن وصول سمو الأميرة منى الحسين، فيقف الجمهور احتراماً لها. تجلس الأميرة في مقعدها بالصف الأمامي ويدخل قائد الأوركسترا. وما إن تنساب في الهواء أولى نغمات أوبرا لا بوهيم للموسيقار الإيطالي بوتشيني، يحمل المسرح العتيق جمهوره إلى أربعينيات القرن التاسع عشر في باريس، وقد ران عليهم الصمت مأخوذين بسحر قصة الحب التراجيدية بين بطليها، رودولفو وميمي.
“الأوبرا تمثّل الحياة ومتابعتها تغرقنا في أحلامنا”
وتتألق النسخة الثانية من مهرجان ”أوبرا عمّان“ في ذلك المشهد الرائع. وبقيادة السوبرانو الأردنية زينة برهوم –التي تجسد دور ميمي– يقدم المهرجان إنتاجين كاملين من أوبرا ”لا بويم“، رائعة بوتشيني التراجيدية وأحد أكثر الأعمال التي اجتمع الجمهور حول العالم على الافتتان بها. وعن أسباب اختيار هذه المسرحية الأوبرالية تحديداً، تقول زينة: “أردت أن أقدم عملاً معروفاً، وموسيقى يمكن تقديرها بسهولة”. ولكن المغنية الشابة تخفي دافعاً آخر وراء هذا الاختيار – فهذا العرض يضم كورالاً للأطفال، ما يتيح فرصةَ الوقوف على خشبة المسرح أما الأردنيين الشباب. وتواصل حديثها قائلةً: “بدأت برنامجاً بعنوان ’عين على الموسيقى والتعليم‘ في أبريل هذا العام، يركز على نشر الوعي الثقافي بالأوبرا والموسيقى الكلاسيكية. وقد تعاوننا مع مدارس مختلفة في الأردن لاكتشاف المواهب الشابة، والذين شاركوا أيضاً في هذا المهرجان. وقد ذُهلنا من حجم موهبتهم”. وهي هنا تشير إلى اثنين من المغنيين الصغار في العاشرة من عمريهما، وهما عبد الحكيم هاوي وجومانا النوباني، حيث قاما بغناء مقطوعتين موسيقيتين قبل بداية الأوبرا، إلى جانب أطفال كورال الناي السوريين وكورال مدرسة ريبتون الإنجليزية الجديدة، والذين شاركوا في أوبرا لا بوهيم التي ذهب جزء من عائداتها إلى جمعيتين خيريتين معنيتين بالأطفال.
بيد أن المغنية الأوبرالية الشابة، التي أطلقت أول مهرجان أوبرالي في العالم العربي العام الماضي وقدمت به أوبرا ”لا تراڤياتا“ للموسيقار الإيطالي الشهير ڤيردي، لا تنظر إلى هذا الحدث على أنه مجرد إنتاج لعمل أوبرالي رائع. فهي تسعى إلى تطوير المنطقة ومواهبها وبناء قوة موسيقية لا يستهان بها على المسارح العالمية. ويمثل هذا الهدف النبيل تحدياً في حد ذاته، على أقل تقدير، ولكن بالنظر إلى خطواتها الواثقة –فضلاً عن علاقاتها القوية بقائمة من الشخصيات البارزة– من اليسير أن نصدق أن دار أوبرا لاسكالا في ميلانو ستواجه منافساً جديداً في المستقبل غير البعيد.
وتؤكد: “نحن عملياً نعمل على بناء ثقافة لا وجود لها. ورؤيتي تهدف إلى بث الإلهام وإقامة مؤسسة مخصصة لفن الأوبرا في الأردن. كما تقدم الحكومة دعماً كبيراً لنا، من أمانة عمّان الكبرى إلى وزارة السياحة والآثار”. وقد أبدى الجمهور أيضاً دعمه لهذا المهرجان، حتى وإن كانت مشاهدة أوبرا إيطالية تعود إلى قرن مضى ليست خياراً يمكن أن يطرأ على بال البعض كوجهة للخروج يوم الثلاثاء مساءً في العاصمة. ولكن زينة ترى أن الموسيقى لغة عالمية – والأوبرا على وجه خاص، بعواطفها الفياضة، تخاطب نفوس الجماهير بمستوى أكثر عمقاً وبديهيةً. “ثمة لحظات من البهجة والحزن في كل أوبرا. فهي تجسد الحب، والحياة، والموت. وهذا سر جمالها. إنكِ لتجدين نفسكِ وأنت تغادرين الأوبرا غارقة في الأحلام”.
الموسيقى تقيم جسراً بين الثقافات، ويُعد المهرجان خير مثال على ذلك، إذ يضم مغنيين وفريق عمل من الأردن، وجورجيا، والبرازيل؛ بينما الأوركسترا المشاركة به مؤلفة من عازفين من الصين، وإيطاليا، وكولومبيا؛ والمايسترو إيطالي. “نحن جميعاً نفهم الموسيقى، بغض النظر عن اللغة، سواء كانت موسيقى كلاسيكية أم غناء”. ولكن المهرجان، أولاً وقبل كل شيء، يمثل عرضاً أردنياً. “علينا أن نسعى لإشراك المجتمع المحلي ليكون جزءاً من الإنتاجات الأوبرالية في المستقبل. وقد شارك كثير من الأردنيين في هذا العمل – من المجاميع التي ظهرت على المسرح إلى الممثلين ومغنيي الكورال. وأرغب في تشجيع المواهب المحلية. وبدلاً من استقدام مجموعة جاهزة من الخارج، أريد أن نصنع إنتاجاتنا بأيدينا وآمل أن يؤدي ذلك إلى تحقيق فكرة إقامة دار أوبرا في عمّان”. وستحمل هذه الإنتاجات تأثيرات عربية. وعن ذلك تقول: “إنها ليست أسهل لغة في الغناء –على سبيل المثال، معظم الكلمات في اللغة الإيطالية تنتهي بحروف متحركة، ما يجعلها أيسر نسبياً في الغناء– ولكنها فقط تحتاج إلى استخدام طريقة معينة في التأليف، مثل الأشعار. لذا وُجد الشعراء الغنائيون، الذين يؤلفون الكلمات وفقاً للموسيقى. واللغة الألمانية صعبة أيضاً في الغناء، ورغم ذلك ثمة الكثير من المؤلفات الأوبرالية الألمانية الجميلة. ولدينا عديد من المؤلفين العرب في أنحاء المنطقة يعملون في هذا الصدد. وأحدهم، وقد نتعاون معه، عرض بالفعل أوبرا عربية من تأليفه في ألمانيا”.
إلى جانب الغناء الأوبرالي تغوص زينة التي أطلقت ألبومين بعد القنطرة الأولى والقنطرة الثانية، في عالم الفن عبر تصميم مجوهرات وأزياء. وتقول عن هذه المواهب الأخرى لها: “إنها تحقق توازناً في حياتي”. وقد عرضت تصاميمها في المملكة المتحدة برعاية الأميرة منى الحسين وتتميز مجوهراتها، محدودة العدد، بتأثرها ببلاد الشام. إنها نجمة لامعة ومتعددة المواهب بلا شك – ما يدعو للتساؤل عما تشدو به في الحمام؟ أغاني ويتني هيوستن وسيلين ديون، بالطبع.
تعتزم زينة برهوم الغناء ضمن سلسلة حفلات “موسيقى في الاستوديو” التي تقيمها دار أوبرا دبي في الخامس من ديسمبر المقبل.
اقرؤوا أيضاً: رسالة إلى فيروز…
ظهر المقال زينة برهوم… لحن أوبرالي ملهِم في عمّان للمرة الأولى على الموقع الإلكتروني لڤوغ العربية
ليست هناك تعليقات: