شائع

ملح متناثر، وأقدار ضائعة، وفنون شاردة، بقلم منيرة الصلح

عندما افتتحنا الجناح اللبناني في أبريل 2024، كان من المفترض أنا نستمتع بتلك اللحظة، ولكنني كنت أتساءل في قرارة نفسي والقلق يساورني: كيف سيكون وضع لبنان مع انتهاء المعرض في نوفمبر 2024؟ واليوم، ها نحن ذا قبل حوالي شهر من موعد انتهاء بينالي الفن 2024 نعاني آلام الحرب وغارقين تمامًا في ويلاتها. لدينا أكثر من مليون نازح، وقتلى وجرحى بالآلاف. هذه ليست أرقامًا، بل هؤلاء بشر! أضرار جسيمة لحقت بالطبيعة وبأماكن كثيرة على أرض الواقع. كنا نعاني بالفعل من بيئتنا وبنيتنا التحتية. وماذا عن البنايات؟ إنها ليست مجرد بنايات، بل أماكن تشكل ذكرياتنا، وتعانق شوارعنا ومقابرنا وأرواحنا وتاريخنا. هل اعتدنا على هذا المشهد لأننا نشأنا في ظل الحرب؟ في الحقيقة، لا يمكن أبدًا الاعتياد على مثل هذه الفظائع.

ملح متناثر، وأقدار ضائعة، وفنون شاردة، بقلم منيرة الصلح

عندما كنت طفلة، كانت أمي تدعني أصنع ثقبًا في بيجامتي وأنا أرتديها في السرير، ومن ثم أخيط هذا الثقب مرة أخرى كي يساعدني ذلك على الهدوء والنوم. وقد استحدثنا هذا الطقس كوسيلة للتسلية وقت النوم، وظللنا نطبقه لفترة أثناء الحرب. ومرت أوقات كانت فيها القذائف قوية جدًا وقريبة للغاية بشكل يستحيل معه أداء هذا الطقس. ولكن في الأوقات الهادئة نسبيًا، كان ذلك يساعدني حقًا في تخفيف قلقي. وقد ابتكرت مؤخرًا عملاً فنيًا صنعت فيه ثقوبًا في البيجاما، وقمت بحياكة الغرز حوله، أي أنني تركت الثقب مفتوحًا كإشارة إلى حروبنا المستمرة، وكوسيلة لمواجهة تلك الندوب وتأملها. ولا أعتزم سدها ما دامت لم تلتئم بعد، ولا تزال تنمو.

وبالنسبة للجناح اللبناني، فقد حلمت ذات مرة أنه لم يكن لدي سوى تلك البيجاما المعلقة، والتي صُنِعَت بأيادي عديد من النساء على أصوات أطفالنا وهم يغنون أنشودة قبل النوم لأمهاتهم. لكن في ذلك الوقت، مررت بمرحلة كنت فيها بحاجة إلى التعافي من فاجعة انفجار الرابع من أغسطس، وما زلت أفكر في ثورة 2019، والأزمة الاقتصادية، والخوف من وقوع زلازل جديدة جراء تلك التي دمرت أجزاء من سوريا وتركيا، وهزت لبنان أيضًا وتسببت في سقوط بعض المباني القديمة في طرابلس وأماكن أخرى. وبمراجعة كل هذه الأمور وما خلّفت من آثار، أردت النظر إلى أبعد من ذلك، إلى التاريخ القديم، من أجل فهم الحاضر فهمًا أعمق، بدلاً من صنع عمل يتناول الحروب الحالية مباشرة. كنت أبحث عن أدوات البقاء على قيد الحياة، عن العمق والروابط القديمة، من خلال التعلم من حقبة زمنية أخرى.

وعلى ذلك، استند عرضي في نهاية الأمر إلى الأساطير الفينيقية للتمثيل المنفرد في الجناح اللبناني. وقبل السابع من أكتوبر 2023 بأسبوع، كنا نصور مشاهد في رحاب مواقع أثرية في كلٍ من صور، وصيدا، وجبيل، والبترون، وبيروت، ومحمية أرز الشوف الطبيعية وأماكن أخرى، مع طاقم عمل «محلي» يتألف من ممثلين غير محترفين، بل لنقل مجموعة صغيرة من الأصدقاء المقربين وأفراد العائلة. وفي الأسبوع الأخير من سبتمبر 2023، أنهينا التصوير على الأرض، وكنا نرتدي أزياءً وإكسسوارات تمثيلية من صنعنا، بينما على الجانب الآخر من الكاميرا، كان يأتي العشرات من الناس لمشاهدتنا.

وفي رأيي، كانت تلك أبرز اللحظات المبهجة في التحضير للجناح اللبناني. أتذكرها اليوم وأنا أذرف الدمع بينما أنظر إلى لبنان الآن! انظروا كيف وصل الحال بصور وبعلبك وغيرها من المواقع العديدة اليوم في ظل الحرب! لو أردنا تصوير نفس هذه المشاهد الآن، في سبتمبر 2024، لكان ذلك مستحيلاً. وفي ظل الوضع الكارثي الحالي، يمكننا بالكاد أن نستجمع قوانا من أجل البقاء على قيد الحياة! لقد تأثرنا كلنا بشدة، والبلد كله أصابه الشلل. وفي سبتمبر أو أكتوبر 2024، أردت إعادة تقديم تلك العروض الحية في لبنان، لمشاركة جزء حي من العمل مع الجمهور مباشرةً. ولكن اليوم، لا يسعنا إلا أن نتهيأ للسلام من أجل إنقاذ هؤلاء الذين ينامون في الشوارع، والجرحى، والقتلى! وسرعان ما أصبحت طرقنا مسدودة بالقنابل وندوبها، أو اتخذها الناس وعائلات كاملة أماكن للنوم في الهواء الطلق، مع عدم وجود أماكن إيواء كافية، وباتت المعنويات في الحضيض حقًا!

ومن المفارقات أنني بعد أن تعافيت من صدمات تعرضت لها مؤخرًا، ابتكرت عملاً بعنوان «رقصة من حكايتها»، وتجسدت الضرورة الملحة في الرجوع إلى الأزمنة والأساطير الفينيقية المختلفة، وقوقعة موركس، وغيرها، مثل أسطورة أوروبا، التي أصبحت أعمالاً معتادة بالمعرض. وركز العمل على تحرير تلك الأساطير من الطريقة التي رُوِيَت بها لنا في المدرسة، أو انتشرت بها في لبنان كفخر وطني، أو كيف رواها في الأصل كتّاب أغلبهم يونانيون.

وفي عملي الفني، أستعيد هذه الأساطير، وأعيد رسمها وتصويرها من الشواطئ اللبنانية. وأيضًا، أتصدى لصورة المرأة الضحية فيها. أما أم أوروبا، فهي التي عرفتني بالأبجدية الفينيقية، وليس ابنها قدموس أو شقيقها أو أوروبا. وكثيرًا ما عمد رسامون غربيون إلى تصوير الأخيرة كامرأة عارية تمثل ضحية أو مجرد شيء بلا قيمة. ومن الناحية الرمزية، أردت أن أعيد لنسائنا، بأسلوب مرح، إرادتهن التي سُلبت منهن في كل أسطورة. وخلال الثورة اللبنانية، شاهدت مدى قوة المرأة اللبنانية وإرادتها للتغيير، وكيف واجهت الفساد بجسدها! إن المرأة تتمتع بقوة كبيرة، ومع ذلك تتعرض للتهميش وإساءة المعاملة، وأردت أن أظهر هذا الجانب منا كنساء، في العمل الفني الذي كنت أعمل عليه. وبالتالي، فإن الرجوع للتاريخ الفينيقي بوجه خاص، والتاريخ القديم بوجه عام، إنما هو وسيلة لفهم واقعنا اليوم، وصوغ روابط مع الماضي الذي راح طي النسيان. إن قراءة ما كُتِب عن الفينيقيين اليوم أعادني ليس فقط إلى غابات الأرز الساحرة، بل وأيضًا إلى ارتبطنا بالفراعنة، وبأماكن لم أكن أتوقعها قط، مثل مالطا وبريطانيا، وبالطبع بالإغريق، وقبرص الحبيبة، وأفغانستان، وتونس، وحتى كيف كانوا يسافرون حول أفريقيا في رحلة استكشافية بأمر من أحد ملوك الفراعنة. وهذا جعلني أعرف المزيد عن معتقداتهم ورحلاتهم البحرية، وكيف أسسوا مدنهم البحرية المختلفة، من جبيل إلى صور، ومن صيدا إلى مدينة أرواد السورية، وحتى غزة، وأوغاريت، بل أيضًا والأزمنة المختلفة التي عاشها الفينيقيون.

وكانت قوتهم تكمن في مدنهم البحرية المتناثرة، وفي قواربهم، ومرونتهم في الإبحار، واتباع النجوم، ومعرفة كل الطرق المختصرة في البحر.

ولم يكن هؤلاء، باستثناء البعض، ممن يطمحون إلى إقامة الإمبراطوريات، مثل الفراعنة، أو بلاد الرافدين، أو الآشوريين، أو البابليين، أو الفرس، أو الرومان على سبيل المثال لا الحصر. وقادني هذا أحيانًا إلى التفكير فينا نحن اللبنانيين، وكيف أننا بارعون للغاية (للأسف ولكن هذه هي الحقيقة) في التشتت حول العالم. تؤثر الكوارث على قراراتنا بخصوص المكان الذي سنعيش فيه، ولكن بعد ذلك، يحرص كثيرون على العودة إلى ديارهم، أيضًا استنادًا إلى الكوارث الخارجية أو التغييرات الداخلية. والأهم من هذا كله وما أستطيع قوله اليوم إنه من قراءتي عن التاريخ الفينيقي تعلمت التحلي بالصبر أثناء الحروب، والإيمان بأن الأمور ستتحسن مرة أخرى، حتى لو لم نشهد ذلك أبدًا في حياتنا! فسوف تتحسن الأوضاع حتمًا يومًا ما!

قرأت عن الملك المرعب شلمنصر الثالث، ملك آشور الذي بلغت حملاته البحر المتوسط، وكان عندما يغزو مكانًا يترك رؤوس القتلى مكدسة على شكل هرم، لإخافة الآخرين وتلقينهم درسًا! وقرأت عن الفرس والرومان الذين ارتكبوا المجازر من أجل غزو الفينيقيين، وكيف قاومت مدينة صور الغزاة أكثر من غيرها، ربما لأسباب ترجع لشخصية ملوكها وشعبها، وأيضًا بفضل وجود آبار المياه التي ساعدت الناس على البقاء على قيد الحياة أثناء الحروب، علاوة على وجود صهاريج المياه لتوزيعها وقت الحصار. وقرأت كذلك عن التنافس بين مدينتي صور وصيدا في بعض الأحيان أيضًا، وكيف كان البحارة والتجار في صور يتحدثون بأكثر من 8 لغات ولهجات لبيع منتجاتهم وشرائها هنا وهناك. ومن ناحية أخرى، كان على الفينيقيين دفع جزية عالية في كثير من الأحيان، للقوى العظمة التي تحتل المنطقة! وقد أثر ذلك على ازدهارهم واستقرارهم. وكانت الجزية عبارة عن خشب الأرز المطلوب بشدة أو زيت الزيتون أو المنسوجات أو غيرها من السلع التي حصلوا عليها من رحلاتهم البحرية، مثل النحاس والقصدير والذهب وغيرها. واليوم، يبدو أننا ما زلنا في خطر، وما زلنا مجبرين على دفع الجزية، بطريقة أو بأخرى، وما زلنا نعاني من الحروب والنزوح! في بعض الأحيان كانوا يفضلون منح العطايا على الحروب، والمصاهرة على الدخول في حرب. واليوم، من المهم أن نفكر في كيفية الحفاظ على سلامة بلدنا، والمزيج الثقافي الجميل المتنوع الذي يقدمه لبنان عادةً، كيف سنحافظ على حياة هؤلاء؟ وكيف يمكننا إعادة تشكيل لبنان الحبيب؟ أجواء من السلام والوئام هو ما نحتاج إليه، على أقل تقدير، لإعادة تشكيل بلدنا! والفن من شأنه أن يعزز هذه الروابط، ولكننا قبل كل شيء نحتاج إلى وقف إطلاق النار والسلاح، حتى نتمكن من البدء من نقطة ما. فالحرب لا ترحم كل من يعيش في لبنان الآن، من اللبنانيين إلى السوريين، ومن الفلسطينيين إلى العاملين المهاجرين وحتى الوافدين الذين يأتون ويرحلون.

سنظل مجرد ملح متناثر وأقدار ضائعة وفننا أشبه بفن شارد إذا لم نعش سنوات من السلام ونلمس دليلاً ماديًا على استقلاليتنا الهشة للغاية التي يتم الاعتداء عليها دومًا حتى الآن. وبالنسبة لسياق البندقية، آمل أن يكون هناك جناحًا لبنانيًا تاليًا، وألّا يضطر القيّم على المعرض والفنانين للعمل في ظل أجواء الحرب، وهو ما عاشه كثير منّا حتى الآن.

The post ملح متناثر، وأقدار ضائعة، وفنون شاردة، بقلم منيرة الصلح appeared first on ﭭوغ العربية.



ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.